Thursday, September 1, 2022

فاقد الشيء لا يعطيه

 يمكننا معرفة الآخرين من خلال كلماتهم وعباراتهم الصغيرة. لأمي شعارات معينة كانت ترددها في أوقات عشوائية. لم تكن أمي تشبه أي شخص عرفته أو رأيته، لم تكن حتى تشبه أي شخصية درامية شاهدتها أو قرأت عنها. لم أكن أحب الألغاز، ولم تنفع يوماً الأسئلة المباشرة في أن تعطي أجوبة مباشرة، لذا لطالما لجأت إلى واعتمدت على تحليلي الشخصي لفهم أمي. مرت سنوات طويلة في جهدي هذا، كانت امي حية ترزق وباتت ميتة، وما زلت أحاول أن أفهمها وأفهم تعبيراتها. ما هي تداعيات أن تكرر الأم مقولة "فاقد الشيء لا يعطيه"؟ ما هو ذلك الشيء الذي عجزت أمي عن إعطائه؟ كنت أخاف وأقلق على الحب. رغم أنني كنت دوماً مقتنعة وعلى يقين تام أن الحب لا يُحتوى، لا يزيد أو ينقص، هو فقط يكون أو لا يكون. وإن وجد، كان وفر وبلا حدود، بلا بداية، أو نهاية. تمنيت دوماً ان تكون أمي مخطئة إن عنت الحب، وأنها كانت تعني شيئاً مختلف تماماً. 

عندما أردت معرفة أمي، كنت أستمع لأغنياتها المفضلة معها، ألحق انفعالاتها، تحركات جسدها، أصغر تغيير في وجهها، فمها، عيناها، غُناها، صوتها الشجي الشجن. حتى حزن أمي، كان عميق ومميز. كانت أمي تغني فقط عندما تكون غاضبة أو حزينة. أُغرِمتُ بأمي لا لمجرد أنها أمي، بل لشخصها وشخصيتها. أحببت فيها حتى ذلك الشيء الذي لم أستطع ان أعرفه عنها أو ألمسه. حبي لأمي كان أشبه بالوله.

عندما كنت أحتاج لأمي، كنت أسعى لفهمها حتى أعلم ما كان يحول بيني وبينها, والحب الذي احتجته وأردته منها ولم يكن. كنت أراقب  عيناها بتمعن وأحاول قراءة دموعها والمشاهد المحببة أكثر لديها عندما كانت تشاهد الأفلام. كنت أغرق في تحليلي لاختيارها للأفلام, لشخصياتها المفضلة، للممثليها المفضلين، أصدقائها، جاراتها، مواضيع أحاديث قهوة بعد الظهر، نظراتها لوالدي، طريقة أكلها، معاملتها للغرباء، صباحاتها، سيجارة آخر النهار في سريرها، وضعيات نومها. لم تشبه رائحة سيجارات أمي دخان أحد. أغرمت برائحة دخانها، وصوت أنفاسها، وصمتها.  

علاقتي بأمي كانت تشبه علاقات الطرف الواحد، كانت أيضأ اشبه بعلاقة الحب بلا أمل. هل كنت مهووسة بها، لغموضها، لتميزها، لذكائها؟ أغرمت بمعرفتها الواسعة عندما اكتشفت لأول مرة أنه يمكنني أن أسألها عن أي كلمة عربية قد كتبت يوما، وإمكانية تفسيرها معناها لي عن ظهر قلب وبالتفاصيل في ثاينة. لم أعد ألجأ إلى القاموس من بعدها. اعتقدت أنني وجدت أخيرا ما يمكن أن يجمعني بأمي وهي على سجيتها،  مستمتعة، فخورة، غير مرغمة أن تكون في هذا القالب أو ذاك. الأمومة التقليدية لم تكن يوما تليق بها، ولا هي عرفت طرقاتها. أرغمَتها أمها على ترك المدرسة وهي في الصف الثاني ابتدائي. أخطأت جدتي، وأبت أمي أن تُكسَر. إنما هل فعلا لم تنكسِر أمي، أو أنها كانت تتقن التظاهر؟ هل فضحت عبارات امي والمقولات مكنونات صدرها، تلك التي كانت تسعى جاهدة أن تخبئها في مظهر القوّة الذي عُرفت به معظم حياتها؟

 

No comments:

Post a Comment